فصل: سورة الحديد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الحديد

عن العرباض بن سارية أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال‏:‏ ‏(‏إن فيهن آية أفضل من ألف آية‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏"‏، والآية المشار إليها في الحديث هي واللّه أعلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم‏}‏‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 3‏)‏

‏{‏ سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ‏.‏ له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ‏.‏ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ‏}‏

يخبر تعالى أنه يسّبح له ما في السماوات والأرض، أي من الحيوانات والنباتات، كما قال في الآية الأُخْرَى‏:‏ ‏{‏تسّبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسّبح بحمده

ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏وهو العزيز‏}‏ أي الذي قد خضع له كل شيء، ‏{‏الحكيم‏}‏ في خلقه وأمره وشرعه، ‏{‏له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت‏}‏ أي هو المالك المتصرف في خلقه، فيحيي ويميت، ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن‏}‏ وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية أنها أفضل من ألف آية، روى أبو داود، عن أبي زميل قال‏:‏ سألت ابن عباس فقلت‏:‏ ما شيء أجده في صدري‏؟‏ قال‏:‏ ما هو‏؟‏ قلت‏:‏ واللّه لا أتكلم به‏.‏ قال، فقال لي‏:‏ أشيء من شك‏؟‏ قال، وضحك، قال‏:‏ ما نجا من ذلك أحد، قال‏:‏ حتى أنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ الآية، قال، وقال لي‏:‏ إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم‏}‏ ‏"‏أخرجه أبو داود‏"‏، وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية، وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولاً، وقال البخاري، قال يحيى‏:‏ الظاهر على كل شيء علماً، والباطن على كل شيء علماً، روى الإمام أحمد، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يدعو عند النوم‏:‏ ‏(‏اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر‏)‏ ‏"‏وأخرجه مسلم بلفظ‏:‏ كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول‏:‏ اللهم رب السماوات ‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏"‏‏.‏ وعن عائشة أنها قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمر بفراشه، فيفرش له مستقبل القبلة، فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى ثم همس، ما يدرى ما يقول، فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال‏:‏ ‏(‏اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، إله كل شيء ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول الذي ليس قبلك شيء، وأنت الآخر الذي ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي‏"‏‏.‏

وروى الترمذي، عن أبي هريرة قال‏:‏ بينما نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما هذا‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏هذا العنان، هذه روايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما فوقكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هل تدرون كم بينكم وبينها‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏بينكم وبينها خمسمائة سنة‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما فوق ذلك‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏فإن فوق ذلك سماء بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع سماوات - ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما فوق ذلك‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء مثل ما بين السماءين‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما الذي تحتكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏فإنها الأرض‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما الذي تحت ذلك‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏فإن تحتها أرضاً أُخْرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع أرضين - بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم حبلاً إلى الأرض السفلى لهبط على اللّه‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم‏}‏ ‏"‏أخرجه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً وقال‏:‏ حديث غريب من هذا الوجه‏"‏‏.‏ وفسَّر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقالوا‏:‏ إنما هبط على علم اللّه وقدرته وسلطانه، وعلم اللّه وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه، انتهى كلامه‏.‏ وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث بسنده، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكره، وعنده‏:‏ ‏(‏وبعد ما بين الأرضين مسيرة سبعمائة عام‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى السابعة لهبط على اللّه‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم‏}‏، وقال ابن جرير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأرض مثلهن‏}‏ عن قتادة قال‏:‏ التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض، فقال بعضهم لبعض‏:‏ من أين جئت‏؟‏ قال أحدهم‏:‏ أرسلني ربي عزَّ وجلَّ من السماء السابعة وتركته ثَمّ، قال الآخر‏:‏ أرسلني ربي عزَّ وجلَّ من الأرض السابعة وتركته ثَمّ، قال الآخر‏:‏ أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ، قال الآخر‏:‏ أرسلني ربي من المغرب وتركته ثَمّ ‏"‏أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير‏:‏ وهذا حديث غريب جداً وقد يكون الحديث الأول موقوفاً على قتادة كما هنا‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏4 ‏:‏ 6‏)‏

‏{‏ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ‏.‏ له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ‏.‏ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ‏}‏

يخبر تعالى عن خلقه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم أخبر تعالى باستوائه على العرش بعد خلقهن، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما يلج في الأرض‏}‏ أي يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر، ‏{‏وما يخرج منها‏}‏ من نبات وزرع وثمار، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ينزل من السماء‏}‏ أي من الأمطار، والثلوج والبرد والأقدار، والأحكام مع الملائكة الكرام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعرج فيها‏}‏ أي من الملائكة والأعمال، كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏(‏يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو معكم أينما كنتم واللّه بما تعملون بصير‏}‏ أي رقيب عليكم شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار‏}‏، فلا إله غيره ولا رب سواه، وقد ثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان‏:‏ ‏(‏أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏ وفي الحديث، قال رجل‏:‏ يا رسول اللّه ما تزكية المرء نفسه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يعلم أن اللّه معه حيث كان‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو نعيم من حديث عبد اللّه العامري مرفوعاً‏"‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أفضل الإيمان أن تعلم أن اللّه معك حيثما كنت‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو نعيم عن عبادة بن الصامت‏"‏‏.‏ وكان الإمام أحمد رحمه اللّه تعالى ينشد هذين البيتين‏:‏

إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل * خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ

ولا تحسبنَّ اللّه يغفل ساعة * ولا أن ما تخفي عليه يغيب

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏له ملك السماوات والأرض وإلى اللّه ترجع الأمور‏}‏، أي هو المالك للدنيا والآخرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لنا للآخرة والأولى‏}‏ وهو المحمود على ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو اللّه لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للّه الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير‏}‏، فجميع ما في السماوات والأرض ملك له، وأهلهما عبيد أرقاء أذلاء بين يديه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن كل من في السماوات والأرض إلا آتِ الرحمن عبداً‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وإلى اللّه ترجع الأمور‏}‏ أي إليه المرجع يوم القيامة فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل‏}‏ أي هو المتصرف في الخلق، يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعاً ثم قيظاً ثم خريفاً، وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه ‏{‏وهو عليم بذات الصدور‏}‏ أي يعلم السرائر وإن دقت أو خفيت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 11‏)‏

‏{‏ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ‏.‏ وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ‏.‏ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم ‏.‏ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ‏.‏ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ‏}‏

أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، وحث على الإنفاق ‏{‏مما جعلكم مستخلفين فيه‏}‏ أي مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفكم فيه من المال في طاعته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مما جعلكم مستخلفين فيه‏}‏ فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك، فلعل وارثك أن يطيع اللّه فيه فيكون أسعد بما أنعم اللّه به عليك منك، أو يعصي اللّه فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان‏.‏ روى مسلم، عن عبد اللّه بن الشخير قال‏:‏ انتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو يقول‏:‏ ‏(‏ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم‏:‏ مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت‏؟‏ أو لبست فأبليت‏؟‏ أو تصدقت فأمضيت‏؟‏ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم والإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير‏}‏ ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة،

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما لكم لا تؤمنون باللّه والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ وأيّ شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد روينا في الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوماً لأصحابه‏:‏ ‏(‏أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ الملائكة، قال‏:‏ ‏(‏وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ فالأنبياء، قال‏:‏ ‏(‏وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ فنحن، قال‏:‏ ‏(‏وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم‏؟‏ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري في كتاب الإيمان‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد أخذ ميثاقكم‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة اللّه عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا‏}‏ ويعني بذلك بيعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي ينزل على عبده آيات بينات‏}‏ أي حججاً واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات، ‏{‏ليخرجكم من الظلمات إلى النور‏}‏ أي من ظلمات الجهل والكفر، إلى نور الهدى والإيمان، ‏{‏وإن اللّه بكم لرؤوف رحيم‏}‏ أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس، ولما أمرهم أولاً بالإيمان والانفاق، ثم حثهم على الإيمان، حثهم أيضاً على الانفاق، فقال‏:‏ ‏{‏وما لكم ألا تنفقوا في سبيل اللّه وللّه ميراث السماوات والأرض‏}‏‏؟‏ أي أنفقوا ولا تخشوا فقراً وإقلالاً، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السماوات والأرض، وهو القائل‏:‏ ‏{‏وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين‏}‏، ‏{‏ما عندكم ينفد وما عند اللّه باق‏}‏، فمن توكل على اللّه أنفق وعلم أن اللّه سيخلفه عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل‏}‏ أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله، وذلك أنه قبل فتح مكة كان الحال شديداً، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهوراً عظيماً، ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد اللّه الحسنى‏}‏، والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة وعن الشعبي‏:‏ أن المراد صلح الحديبية ‏.‏

وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد، عن أنَس قال‏:‏ كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن‏:‏ تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحُد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم‏)‏ ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكّة‏.‏ وعن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم‏)‏ قلنا‏:‏ من هم يا رسول اللّه، قريش‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً‏)‏ وأشار بيده إلى اليمن فقال‏:‏ ‏(‏هم أهل اليمن، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية‏)‏ فقلنا‏:‏ يا رسول اللّه هم خير منا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه‏)‏ ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال‏:‏ ‏(‏ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس ‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة

من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد اللّه الحسنى واللّه بما تعملون خبير‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلا وعد اللّه الحسنى‏}‏ يعني المنفقين قبل الفتح وبعده كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم‏}‏ الآية، وهكذا الحديث الذي في الصحيح‏:‏ ‏(‏المؤمن القوي خير، وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف وفي كل خير‏)‏ فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه بما تعملون خبير‏}‏ أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏سبق درهم مائة ألف‏)‏ ولا شك أن الصدّيق أبا بكر رضي اللّه عنه له الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه اللّه عزَّ وجلَّ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً‏}‏ قال عمر بن الخطّاب‏:‏ هو الإنفاق في سبيل اللّه، وقيل‏:‏ هو النفقة على العيال، والصحيح أنه أعم من ذلك، فكل من أنفق في سبيل اللّه بنية خالصة، وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له‏}‏، كما قال في الآية الأُخْرى ‏{‏أضعافاً كثيرة وله أجر كريم‏}‏ أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة يوم القيامة‏.‏ عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له‏}‏ قال أبو الدحداح الأنصاري‏:‏ يا رسول اللّه، وإن اللّه ليريد منا القرض‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يا أبا الدحداح‏)‏ قال‏:‏ أرني يدك يا رسول اللّه، قال، فناوله يده، قال‏:‏ فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال، فجاء أبو الدحداح، فناداها‏:‏ يا أم الدحداح، قالت‏:‏ لبيك، قال‏:‏ اخرجي فقد أقرضته ربي عزَّ وجلَّ‏.‏ وفي رواية أنها قالت له‏:‏ ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كم من عِذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ معنى العذق ‏:‏ القنو من النخل، والعنقود من العنب، و رداح ‏:‏ ضخم، مخصب ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏12 ‏:‏ 15‏)‏

‏{‏ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ‏.‏ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ‏.‏ ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور ‏.‏ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين المتصدقين، أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم بحسب أعمالهم، كما قال عبد اللّه بن مسعود في قوله تعالى ‏{‏يسعى نورهم بين أيديهم‏}‏ قال‏:‏ على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة رواه ابن أبي جرير ، وقال الضحّاك‏:‏ ليس أحداً إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفيء نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفيء نور المنافقين، فقالوا‏:‏ ربنا أتمم لنا نورنا، وقال الحسن ‏{‏يسعى نورهم بين أيديهم‏}‏‏:‏ يعني على الصراط‏.‏ وقد روى ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، فأعرف أُمتي من بين الأمم‏)‏ فقال له رجل‏:‏ يا نبي اللّه كيف تعرف أُمّتك من بين الأُمم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أعرفهم، محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأُمم غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وبأيمانهم‏}‏، قال الضحّاك‏:‏ أي وبأيمانهم كتبهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏، أي يقال لهم‏:‏ بشراكم اليوم جنات، أي لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار، ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها أبداً ‏{‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم‏}‏ وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة، والزلازل العظيمة، والأمور الفظيعة، وأنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن باللّه ورسوله وعمل بما أمر اللّه به، وترك ما عنه زجر‏.‏

روى ابن أبي حاتم، عن سليم بن عامر قل‏:‏ خرجن على جنازة في بب دمشق، ومعنا أبو أمامة الباهلي فلما صلي على الجنازة، وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة‏:‏ أيها الناس، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر، وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الدود، وبيت الضيق، إلا ما وسع اللّه، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس من أمر اللّه، فتبيَضّ وجوه، وتسوَدّ وجوه، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نوراً، ويترك الكافر والمنافق، فلا يعطيان شيئاً، وهو المثل الذي ضربه اللّه تعالى في كتابه فقال‏:‏ ‏{‏أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل اللّه له نوراً فما له من نور‏}‏ فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا‏:‏ ‏{‏انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً‏}‏، وهي خدعة اللّه التي خدع بها المنافقين حيث قال‏:‏ ‏{‏يخادعون اللّه وهو خادعهم‏}‏، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم، وقد ضرب بينهم بسور له باب ‏{‏باطنه فيه الرحمة وظاهره فيه العذاب‏}‏ الآية، يقول سليم بن عامر‏:‏ فما يزال المنافق مغتراً حتى يقسم النور، ويميز اللّه بين المنافق والمؤمن ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏، وقال ابن عباس‏:‏ بينما الناس في ظلمة إذ بعث اللّه نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلاً من اللّه إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم، فأظلم اللّه على المنافقين، فقالوا حينئذ‏:‏ ‏{‏انظرونا نقتبس من نوركم‏}‏ فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون ‏{‏ارجعوا وراءكم‏}‏ من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور، وروى الطبراني عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط، فإن اللّه تعالى يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب اللّه نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون‏:‏ انظرونا نقتبس من نوركم، وقال المؤمنون‏:‏ ربنا أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره فيه العذاب‏}‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ هو حائط بين الجنة والنار، وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ هو الذي قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وبينهما حجاب‏}‏، وهكذا روي عن مجاهد وهو الصحيح ‏{‏باطنه فيه الرحمة‏}‏ أي الجنة وما فيها ‏{‏وظاهره فيه العذاب‏}‏ أي النار، والمراد بذلك سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب، وبقي المنافقين من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وشك وحيرة، ‏{‏ينادونهم ألم نكن معكم‏}‏ أي ينادي المنافقين المؤمنين‏:‏ أما كنا معكم في الدار الدنيا نشهد معكم الجمعات‏؟‏ ونصلي معكم الجماعات‏؟‏ ونقف معكم بعرفات‏؟‏ ونحضر معكم الغزوات‏؟‏ ونؤدي معكم سائر الواجبات‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، أي فأجاب المؤمنون النافقين قائلين‏:‏ بلى قد كنتم معنا ‏{‏ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني‏}‏، قال بعض السلف‏:‏ أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات ‏{‏وتربصتم‏}‏ أي أخّرتم التوبة من وقت إلى وقت، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏تربصتم‏}‏ بالحق وأهله، ‏{‏وارتبتم‏}‏ أي بالبعث بعد الموت، ‏{‏وغوتكم الأماني‏}‏ أي قلتم‏:‏ سيغفر لنا، وقبل غرتكم الدنيا ‏{‏حتى جاء أمر اللّه‏}‏ أي ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت، ‏{‏وغركم باللّه الغرور‏}‏ أي الشيطان، وقال قتادة‏:‏ كانوا على خدعة من الشيطان واللّه ما زالوا عليها حتى قذفهم اللّه في النار، ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين‏:‏ إنكم كنتم معنا أي بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تراءون الناس ولا تذكرون اللّه إلا قليلاً، وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر اللّه تعالى به عنهم حيث يقول‏:‏ ‏{‏كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر‏}‏‏؟‏ فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ؛ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا‏}‏ أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من عذاب اللّه ما قبل منه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مأواكم النار‏}‏ أي هي مصيركم وإليها منقلبكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هي مولاكم‏}‏ أي هي أولى بكم من كل منزل، على كفركم وارتيابكم وبئس المصير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏16 ‏:‏ 17‏)‏

‏{‏ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ‏.‏ اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه، قال ابن عباس‏:‏ إن اللّه استبطأ قلوب المؤمنين،

فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، فقال‏:‏ ‏{‏ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه‏}‏ الآية ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللّه بهذه الآية‏:‏ ‏{‏ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه‏}‏ الآية إلا أربع سنين ‏"‏رواه مسلم والنسائي‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم‏}‏ نهى اللّه تعالى المؤمنين، أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم، من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد، بدلوا كتاب اللّه الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد، ‏{‏وكثير منهم فاسقون‏}‏ أي في الأعمال، فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ أي فسدت قلوبهم فقست، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه، ولهذا نهى اللّه المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية‏.‏

روى أبو جعفر الطبري، عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم، اخترعوا كتاباً من بين أيديهم وأرجلهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم، وقالوا‏:‏ نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب، فمن آمن به تركناه، ومن كفر به قتلناه، قال‏:‏ فجعل رجل منهم كتاب اللّه في قرن، ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له‏:‏ أتؤمن بهذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏آمنت به ويومئ إلى القرن بين ثندوتيه، ومالي لا اؤمن بهذا الكتاب‏؟‏ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود موقوفاً‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعلموا أن اللّه يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون‏}‏ فيه إشارة إلى أن اللّه يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكيم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏18 ‏:‏ 19‏)‏

‏{‏ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم ‏.‏ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ‏}‏

يخبر تعالى عما يثيب به ‏{‏المُصَّدِقين والمُصَّدِقات‏}‏ بأموالهم على أهل الحاجة والفكر والمسكنة ‏{‏وأقرضوا اللّه قرضاً حسناً‏}‏ أي دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة اللّه، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكوراً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يضاعف لهم‏}‏ أي يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزاد إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك، ‏{‏ولهم أجر كريم‏}‏ أي ثواب جزيل ومآب كريم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا باللّه ورسوله أولئك هم الصديقون‏}‏ هذا تمام الجملة، وصف المؤمنين باللّه ورسله بأنهم صديقون، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أولئك هم الصديقون‏}‏ هذه مفصولة، ‏{‏والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم‏}‏، وقال أبو الضحى ‏{‏أولئك هم الصديقون‏}‏‏.‏ ثم استأنف الكلام، فقال‏:‏ ‏{‏والشهداء عند ربهم‏}‏، عن ابن مسعود قال‏:‏ هم ثلاثة أصناف يعني‏:‏ المُصَدقين، والصديقين، والشهداء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏}‏ ففرق بين الصديقين والشهداء، فدل على أنهما صنفان، ولا شك أن الصديق أعلى مقام من الشهيد، كما روى الإمام مالك، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة ليترءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم‏)‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان والإمام مالك‏"‏‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم‏}‏ فأخبر عن المؤمنين باللّه ورسوله بأنهم صديقون وشهداء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشهداء عند ربهم‏}‏ أي في جنات النعيم كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت‏)‏ الحديث‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم أجرهم ونورهم‏}‏ أي لهم عند اللّه أجر جزيل، ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشهداء أربعة‏:‏ رجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدوّ فصدق اللّه فقتل، فذاك الذي ينظر الناس إليه هكذا‏)‏ ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقلنسوة عمر، ‏(‏والثاني مؤمن لقي العدوّ فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح جاءه سهم غرب فقتله فذاك في الدرجة الثانية، والثالث رجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق اللّه فذاك في الدرجة الثالثة، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافاً كثيراً لقي العدوّ فصدق اللّه حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والترمذي، وقال‏:‏ حسن غريب‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ لما ذكر السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 21‏)‏

‏{‏ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏.‏ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ‏}‏

يقول تعالى موهناً أمر الحياة ومحقراً لها‏:‏ ‏{‏إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد‏}‏ أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا واللّه عنده حسن المآب‏}‏، ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال‏:‏ ‏{‏كمثل غيث‏}‏ وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي ينزّل الغيث من بعد ما قنطوا‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعجب الكفار نباته‏}‏ أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها، ‏{‏ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً‏}‏ أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفراً بعد ما كان خضراً نضراً، ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً، أي يصير يبساً متحطماً، هكذا الحياة الدنيا، تكون أولاً شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزاً شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضغفاً وشيبة‏}‏، ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير، فقال‏:‏ ‏{‏وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من اللّه ورضوان‏}‏ أي وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا عذاب شديد، أو مغفرة من اللّه ورضوان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏ أي هي متاع فانٍ، يغتر بها من يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرأوا‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير، وهو في الصحيح ثابت بدون الزيادة‏"‏‏.‏

وروى الإمام أحمد، عن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَلْجنَّة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري في الرقاق والإمام أحمد‏"‏ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان، فلهذا حثه اللّه تعالى على المبادرة إلى الخيرات فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض‏}‏ والمراد جنس السماء والأرض كما قال تعالى في الآية الأُخْرى‏:‏ ‏{‏وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏أعدت للذين آمنوا باللّه ورسله ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم‏}‏، أي هذا الذي أهلهم اللّه له هو من فضله عليهم، وإحسانه إليهم، كما قدمنا في الصحيح‏:‏ أن فقراء المهاجرين قالوا‏:‏ يا رسول اللّه ذهب أهل الدثور بالأجور، بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال‏:‏ ‏(‏وما ذاك‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق قال‏:‏ ‏(‏أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم‏؟‏ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين‏)‏ قال، فرجعوا فقالوا‏:‏ سمع اخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء‏)‏

 الآية رقم ‏(‏22 ‏:‏ 24‏)‏

‏{‏ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ‏.‏ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور‏.‏ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله

هو الغني الحميد ‏}‏

يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم‏}‏ أي في الآفاق وفي نفوسكم، ‏{‏إلا في كتاب من قبل أن نبرأها‏}‏ أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، وقال بعضهم‏:‏ الضمير عائد على النفوس، وقيل عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها، كما روي عن منصور بن عبد الرحمن قال‏:‏ كنت جالساً مع الحسن فقال رجل‏:‏ سله عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها‏}‏، فسألته عنها، فقال‏:‏ سبحان اللّه، ومن يشك في هذا‏؟‏ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب اللّه من قبل أن يبرأ النسمة، وقال قتادة ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض‏}‏ قال‏:‏ هي السنون يعني الجدب ‏{‏ولا في أنفسكم‏}‏ يقول‏:‏ الأوجاع والأمراض، قال‏:‏ وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلخال عرق إلا بذنب، وما يعفو اللّه عنه أكثر، وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق - قبحهم اللّه - ‏.‏ روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص يقول‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏قدّر اللّه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم وأحمد ورواه الترمذي بالزيادة، وقال‏:‏ حسن صحيح‏"‏، وزاد ابن وهب‏:‏ ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ذلك على اللّه يسير‏}‏ أي إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عزَّ وجلَّ، لأنه يعلم ما كان وما يكون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم‏}‏ أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تيأسوا على ما فاتكم ‏{‏ولا تفرحوا بما آتاكم‏}‏ أي لا تفخروا على الناس بما أنعم اللّه به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا بكدكم، وإنما هو عن قدر اللّه ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم اللّه أشراً وبطراً تفخرون بها على الناس، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه لا يحب كل مختال فخور‏}‏ أي مختال في نفسه متكبر فخور، أي على غيره، وقال عكرمة‏:‏ ‏(‏ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً‏)‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل‏}‏ أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه، ‏{‏ومن يتول‏}‏ أي عن أمر اللّه وطاعته ‏{‏فإن اللّه هو الغني الحميد‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{‏إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏25‏)‏

‏{‏ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات‏}‏ أي بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات ‏{‏وأنزلنا معهم الكتاب‏}‏ وهو النقل الصدق ‏{‏والميزان‏}‏ وهو العدل الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فطرة اللّه التي فطر الناس عليها‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء رفعها ووضع الميزان‏}‏، ولهذا قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليقوم الناس بالقسط‏}‏ أي بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، ‏{‏الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد‏}‏ أي وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من خالف، شرع اللّه الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، وقد روى الإمام أحمد، عن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأبو داود‏"‏ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فيه بأس شديد‏}‏ يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان ونحوها ‏{‏ومنافع للناس‏}‏ أي في معايشهم كالسكة والفأس والمنشار والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ وغير ذلك، قال ابن عباس‏:‏ ثلاثة أشياء نزلت مع آدم‏:‏ السندان، والكلبتان، والميقعة يعني المطرقة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم اللّه من ينصره ورسله بالغيب‏}‏ أي من نيته في حمل السلاح ونصرة اللّه ورسوله ‏{‏إن اللّه قوي عزيز‏}‏ أي هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض‏.‏

 الآية رقم ‏(‏26 ‏:‏ 27‏)‏

‏{‏ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ‏.‏ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ‏}‏

يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام، لم يرسل بعده رسولاً ولا نبياً إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، لم يرسل رسولاً إلا وهو من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى‏:‏ ‏{‏وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب‏}‏ حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل ‏{‏عيسى بن مريم‏}‏ الذي بشر من بعده بمحمد صلوات اللّه وسلامه عليهما، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل‏}‏ وهو الكتاب الذي أوحاه اللّه إليه، ‏{‏وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه‏}‏ وهم الحواريون ‏{‏رأفة‏}‏ أي رقة وهي الخشية ‏{‏ورحمة‏}‏ بالخلق، وقوله‏:‏ ‏{‏ورهبانية ابتدعوها‏}‏ أي ابتدعها أمّة النصارى، ‏{‏ما كتبناها عليهم‏}‏ أي ما شرعناها وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ابتغاء رضوان اللّه‏}‏ فيه قولان أحدهما ‏:‏ أنهم قصدوا بذلك رضوان اللّه، قاله سعيد بن جبير وقتادة، والآخر ‏:‏ ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان اللّه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما رعوها حق رعايتها‏}‏ أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين‏:‏ أحدهما ‏:‏ الابتداع في دين اللّه ما لم يأمر به اللّه، والثاني ‏:‏ في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏ وقد روى ابن أبي حاتم،

عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا ابن مسعود‏)‏ قلت‏:‏ لبيك يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة‏؟‏ لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى بن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين اللّه ودين عيسى بن مريم، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أُخْرَى لم تكن لها قوة بالقتال فقامت بين الملوك والجبابرة، فدعوا إلى دين اللّه ودين عيسى بن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أُخْرَى لم يكن لها قوة ولم تطق القيام بالقسط فلحقت بالجبال فتعبّدت وترهبت وهم الذين ذكر اللّه تعالى ‏{‏ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير بطريق أُخْرَى ولفظ آخر‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد، عن إياس بن مالك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمّة الجهاد في سبيل اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏لكل أمّة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل اللّه‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والحافظ أبو يعلى‏"‏‏.‏ وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رجلاً جاءه فقال‏:‏ أوصني، فقال‏:‏ سألت عما سألت عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قبلك، أوصيك بتقوى اللّه فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر اللّه وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏28 ‏:‏ 29‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ‏.‏ لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ‏}‏

عن أبي موسى الأشعري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين‏:‏ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق اللّه وحق مواليه فله أجران، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تأيبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم‏"‏‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل

اللّه تعالى عليه هذه الآية في حق هذه الأمة‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين‏}‏ أي ضعفين ‏{‏من رحمته‏}‏، وزادهم ‏{‏ويجعل لكم نوراً تمشون به‏}‏ يعني هدى يتبصر به من العمى والجهالة ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ ففضلهم بالنور والمغفرة‏.‏ وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا اللّه يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم واللّه ذو الفضل العظيم‏}‏، ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد، عن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالاً فقال‏:‏ من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط‏؟‏ ألا فعملت اليهود، ثم قال‏:‏ من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط‏؟‏ ألا فعملت النصارى، ثم قال‏:‏ من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين‏؟‏ ألا فأنتم الذين عملتم، فغضبت النصارى واليهود، وقالوا‏:‏ نحن أكثر عملاً وأقل عطاء، قال‏:‏ هل ظلمتكم من أجركم شيئاً‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏ وروى البخاري، عن أبي موسى، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قوماً يعملون له عملاً، يوماً إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا‏:‏ لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم‏:‏ لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم، فقال‏:‏ أكملوا يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر، قالوا‏:‏ ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال‏:‏ أكملوا بقية عملكم، فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا، فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور‏)‏ ‏"‏رواه البخاري في صحيحه‏"‏‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل اللّه‏}‏ أي ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه اللّه ولا إعطاء ما منع اللّه‏.‏ ‏{‏وأنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم‏}‏‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب‏}‏ أي ليعلم، وعن ابن مسعود أنه قرأها‏:‏ لكي يعلم لأن العرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل أوله أو آخره جحد غير مصرح، فالسابق كقوله‏:‏ ‏{‏ما منعك ألا تسجد‏}‏، ‏{‏وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون‏}‏‏.‏